الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي
أحدهما: يبطل. فعلى هذا: لا يملكه المقترض؛ لأن القرض إنما وقع بهذا الشرط، فإذا بطل الشرط.. بطل القرض، كالبيع بشرط فاسد. والثاني: لا يبطل؛ لأن القرض عقد إرفاق، فلم يبطل بالشرط الفاسد، بخلاف البيع.
أحدهما: يجب ردُّ قيمته، وهو اختيار الشيخ أبي حامد، ولم يذكر غيره؛ لأنه مضمون بالقيمة في الإتلاف، فكذلك في القرض. والثاني: يضمنه بمثله في الصورة والخِلْقة، وهو اختيار القاضي أبي الطيب الطبري؛ لحديث أبي رافع - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حيث: «أمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يقضي البكر بالبكر»، ولأن طريق القرض الرِّفق، فسومح فيه بذلك، ألا ترى أنه يجوز فيه النسيئة فيما فيه الرِّبا، ولا يجوز ذلك في البيع، بخلاف المتلف، فإنه متعدٍّ، فأوجبت عليه القيمة؛ لأنها أخص؟ قال ابن الصبّاغ: فإن قلنا: تجب القيمة، فإن قلنا: إنه يملك ذلك بالقبض.. وجبت القيمة حين القبض. وإن قلنا: إنه لا يملك إلا بالتصرف.. وجبت عليه القيمة أكثر ما كانت من حين القبض إلى حين التصرف. وإن اختلفا في قدر القيمة، أو في صفة المثل.. فالقول قول المستقرض مع يمينه؛ لأنه غارمٌ.
أحدهما: لا يجوز ـ وبه قال أبو حنيفة ـ كغيره مما لا يضبط بالوصف. والثاني: يجوز، قال ابن الصبّاغ: لإجماع أهل الأعصار على ذلك، فإنهم يقترضون الخبز. فإذا قلنا: يجوز اقتراضه، فإن قلنا: يجب فيما لا مثل له رد مثله في الصورة.. رد مثل الخبز وزنًا. وإن قلنا: يجب ردُّ القيمة فيما لا مثل له.. رد قيمة الخبز. فعلى هذا: إن شرط أن يرد مثل الخبز.. ففيه وجهان: أحدهما: يصح؛ لأنَّ الرفق باقتراض الخبز لا يحصل إلاَّ بذلك. والثاني: لا يصح، كما لا يجوز بيع الخبز بالخبز.
قال الشيخ أبو حامد: ويأخذ قيمة الطعام بمصر لا بمكََّّةَ في يوم المطالبة؛ لأنه إنما وجب عليه دفع القيمة يوم المطالبة. وهكذا: إن غصب منه طعامًا بمصر، أو أسلم إليه في طعام بمصر، فلقيه بمكة.. كان الحكم فيه كالحكم في القرض، إلاَّ في أخذ القيمة، فإنَّه لا يجوز أخذ القيمة عن المسلم فيه، ويجوز أخذ القيمة عن المغصوب، إلاَّ أنَّ الغاصب إذا دفع قيمة الطعام بمكة، وكان الطعام باقيًا.. لم يملكه الغاصب، بل إذا رجع إلى مصر.. ردَّ الطعام الذي غصبه، واسترجع القيمة، فأمَّا إذا كان في ذمَّته له دراهم أو دنانير من قرض أو غصب أو سلم بمصر، فطالبه بقضائها في مكة.. وجب عليه القضاء؛ لأنه ليس لنقلها مؤنة، فلم تختلف باختلاف البلدان.
وإن كانت العين المقترضة باقية في يد المقترض.. فإنه لا يجوز أخذ العوض عنها؛ لأنَّا إن قلنا: إنَّ المقترض قد ملكها بالقبض.. فلا يجوز أخذ العوض؛ لأن ملك المقرض قد زال عن العين، ولم يستقرَّ بدلها في ذمة المقترض؛ لأن للمقرض أن يرجع في العين. وإن قلنا: إنَّ المقترض لا يملك العين إلاَّ بالتصرف.. لم يجز للمقرض أخذ بدل العين؛ لأن ملكه عليها ضعيف بتسليط المقترض عليه. هكذا ذكره ابن الصبّاغ. والله أعلم وبالله التوفيق
وأما في الشرع: فهو جعل المال وثيقة على الدين، ليُستوفى منه الدين عند تعذره ممن عليه، وهو جائز. والأصل في جوازه: الكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283]. وهذا أمر على سبيل الإرشاد، لا على سبيل الوجوب. وأما السنة: فما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الرهن محلوب ومركوب». وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يغلق الرهن». وغير ذلك من الأخبار. وأما الإجماع: فلا خلاف بين الفقهاء في جوازه. إذا ثبت هذا: فيجوز أخذ الرهن في السفر؛ للآية، ويجوز أخذه في الحضر، وهو قول كافة الفقهاء، إلا ما حكي عن مجاهد وداود: أنهما قالا: (لا يجوز أخذ الرهن في الحضر). دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اقترض من أبي الشحم اليهودي ثلاثين صاعا من شعير لأهله بعدما عاد من تبوك بالمدينة، ورهن عنده درعه، وكانت قيمتها أربعمائة درهم». ففي هذا الخبر فوائد: منها: جواز الرهن؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رهن. منها: جواز الرهن في الحضر؛ لأن ذلك كان بالمدينة، وكانت موطن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ومنها: أنه يجوز معاملة من في ماله حرام وحلال إذا لم يعلم عين الحلال والحرام؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عامل اليهودي، ومعلوم أن اليهود يستحلون ثمن الخمر ويربون. ومنها: أن الرهن لا ينفسخ بموت الراهن؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مات ودرعه مرهونة. ومنها: أن الإبراء يصح وإن لم يقبل المبرأ؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يعدل عن معاملة مياسير الصحابة، مثل: عثمان، وعبد الرحمن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما-؛ لأنه كان يعلم أنه لو استقرض منهم.. أبرءوه. فلو كانت البراءة لا تصح إلى بقبول المبرأ.. لكان لا يقبل البراءة منهم، فعدل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى اليهودي الذي يعلم أنه يطالبه بحقه. ولأنه وثيقة تجوز في السفر فجازت في الحضر، كالضمان، والشهادة.
قال الشيخ أبو حامد: وحكي عن بعض الناس: أنه قال: لا يصح الرهن إلا في دين السلم، وهو خلاف الإجماع. والدليل على صحة ما ذهبنا إليه: قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] إلى قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283]. وقد يكون الدين في الذمة ثمنا، وقد يكون فيها مثمنا، ولأنه حق ثابت في الذمة، فجاز أخذ الرهن به، كالسلم، ويجوز أخذ الرهن بالدين الحال؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رهن درعه في بدل القرض، وهو حال. ولا يصح الرهن بدين الكتابة. وقال أبو حنيفة: (يصح) دليلنا: أنه وثيقة يستوفى منها الحق، فلم يصح في دين الكتابة، كالضمان، ولأن الرهن إنما جعل لكي يستوفي منه من له الحق إذا امتنع من عليه الحق، وهذا لا يمكن في الكتابة؛ لأن للمكاتب أن يعجز نفسه أي وقت شاء، ويسقط ما عليه، فلا معنى للرهن به. وأما الرهن بمال الجعالة، بأن يقول رجل: من رد عبدي الآبق.. فله الدينار: فإن رده رجل.. استحق الدينار، وصح أخذ الرهن به، وهل يصح أخذ الرهن به قبل الرد؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يصح، وهو اختيار أبي علي الطبري، والقاضي أبي الطيب؛ لأنه حق غير لازم، فهو كـ: مال الكتابة. والثاني: يصح؛ لأنه يؤول إلى اللزوم، فهو كالثمن في البيع مدة الخيار. وأما مال السبق والرمي: فإن كان بعد العمل.. صح أخذ الرهن به، وإن كان قبل العمل، فإن قلنا: إنه كالإجارة.. صح أخذ الرهن به. وإن قلنا: إنه كالجعالة.. فعلى الوجهين في مال الجعالة. وأما العمل في الإجارة: فهل يصح أخذ الرهن به؟ ينظر فيه: فإن كانت الإجارة على عمل الأجير بنفسه.. لم يصح أخذ الرهن به؛ لأنه لا يمكن استيفاء عمله من الرهن. وإن كانت الإجارة على تحصيل عمل في ذمته.. صح أخذ الرهن به؛ لأنه يمكن استيفاء العمل من الرهن، بأن يباع الرهن، ويستأجر بثمنه منه من يعمل.
وقال أبو حنيفة: (كل عين كانت مضمونة بنفسها.. جاز أخذ الرهن بها). وأراد بذلك: أن ما كان مضمونا بمثله أو قيمته.. جاز أخذ الرهن به؛ لأن المبيع لا يجوز أخذ الرهن به؛ لأنه مضمون عليه بفساد العقد، ويجوز عنده أخذ الرهن بالمهر، وعوض الخلع؛ لأنه يضمن بمثله أو قيمته. دليلنا: أن قبل هلاك العين في يده لم يثبت في ذمته دين، فلا يصح أخذ الرهن به، كالمبيع.
ويجوز شرط الرهن مع ثبوت الحق، بأن يقول: بعتك هذا بدينار في ذمتك، بشرط أن ترهنني به كذا، أو أقرضتك هذا، بشرط أن ترهنني كذا؛ لأن الحاجة تدعو إلى شرطه في العقد، فإذا شرط هذا الشرط.. لم يجب على المشتري الرهن، أي: لا يجبر عليه، ولكن متى امتنع منه.. ثبت للبائع الخيار في فسخ البيع. ولا يجوز عقد الرهن قبل ثبوت الحق، مثل: أن يقول: رهنتك هذا على عشرة دراهم تقرضنيها، أو على عشرة أبتاع بها منك. وقال مالك، وأبو حنيفة: (يصح). دليلنا: أنه وثيقة بحق، فلم يجز أن يتقدم عليها، كالشهادة، بأن يقول: اشهدوا أن له علي ألفا اقترضتها منه عدًّا.
وإن عرف قدر المتاع وقيمته... ففيه ثلاثة أوجه، حكاها الصيمري: أحدها: لا يصح الرهن به ولا الضمان. وهذا هو المشهور؛ لأن القيمة لا تجب قبل الإلقاء. والثاني: يصحان. والثالث: يصح الضمان، ولا يصح الرهن. وأما إذا ألقاه في البحر: وجبت القيمة في ذمة المستدعي، ويصح أخذ الرهن به والضمان؛ لأنه دين واجب.
فأما من جهة الراهن: فلا يلزم قبل القبض، سواء كان مشروطا في عقد أو غير مشروط، وبه قال أبو حنيفة. وقال مالك: (يلزم من جهة الراهن بالإيجاب والقبول، فمتى رهن شيئا.. أجبر على إقباضه). وكذلك قال في الهبة. دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] فوصف الرهن بالقبض، فدل على أنه لا يكون رهنا إلا بالقبض، كما أنه وصف الرقبة المعتقة بالإيمان. ثم لا يصح عن الكفارة إلا عتق رقبة مؤمنة، ولأنه عقد إرفاق من شرطه القبول، فكان من شرطه القبض، كالقرض. فقولنا: (عقد إرفاق) احتراز من البيع، فإنه عقد معاوضة. وقولنا: (من شرطه القبول) احتراز من الوقف. إذا ثبت هذا: فالعقود على ثلاثة أضرب: ضرب لازم من الطرفين، كالبيع، والحوالة، والإجارة، والنكاح، والخلع. وضرب جائز من الطرفين، كالوكالة، والشركة، والمضاربة، والرهن قبل القبض. وضرب لازم من أحد الطرفين جائز من الآخر، كالرهن بعد القبض، والضمان، والكتابة.
أما القبض فيها: فنص الشافعي هاهنا: (أنها تصير مقبوضة عن الرهن إذا أذن الراهن في قبضها، ومضت مدة يمكنه فيها أن يقبض). وقال في كتاب (الإقرار والمواهب): (إذا وهب له عينا في يد الموهوب له، فقبلها تمت الهبة، ولم يعتبر الإذن في القبض). واختلف أصحابنا فيها على ثلاث طرق: أحدها من قال: لا يلزم واحد منهما إلا بالقبض، ولا يصح قبضهما إلا بالإذن. وما قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في (الهبة) فأراد: إذا أذن وأضمر ذلك، وصرح به في الرهن. وثانيها منهم من نقل جواب كل واحدة منهما إلى الأخرى، وخرجهما على قولين: أحدهما: لا يفتقر واحد منهما إلى الإذن؛ لأن إقراره له بيده بعد عقد الرهن والهبة، بمنزلة الإذن بالقبض، ولأنه لما لم يفتقر إلى نقل مستأنف.. لم يفتقر إلى إذن. والثاني: يفتقر إلى الإذن فيهما. قال الشيخ أبو إسحاق: وهو الصحيح؛ لأنه قبض يلزم به عقد غير لازم، فلم يحصل إلا بالإذن، كما لو كانت العين في يد الراهن. والطريق الثالث منهم من حمل المسألتين على ظاهرهما، فقال في الهبة: لا تفتقر إلى الإذن بالقبض فيها. وفي الرهن: لا بد من الإذن بالقبض فيه؛ لأن الهبة عقد قوي يزيل الملك، فلم تفتقر إلى الإذن فيها، والرهن عقد ضعيف لا يزيل الملك، فافتقر إلى الإذن بالقبض فيه. إذا ثبت هذا: فرهنه ما عنده.. فإنه لا يحتاج إلى أن ينقله، بلا خلاف على المذهب، وهل يحتاج إلى الإذن بالقبض؟ على الطرق المذكورة. وسواء قلنا: يفتقر إلى الإذن بالقبض، أو لا يفتقر إلى الإذن، فلا بد من مضي مدة يتأتى فيها القبض في مثله: إن كان مما ينقل، فبمضي زمان يمكنه نقله. وإن كان مما يخلى بينه وبينه.. فبمضي زمان يمكنه فيه التخلية. قال الشيخ أبو حامد: وحكي عن حرملة نفسه: أنه قال: لا يحتاج إلى مضي مدة، بل يكفيه العقد والإذن إذا قلنا: إنه شرط، أو العقد لا غير إذا قلنا: إن الإذن ليس بشرط؛ لأن يده ثابتة عليه، فلا معنى لاعتبار زمان ابتداء القبض. وهذا غلط؛ لأن القبض لا يحصل إلا بالفعل أو بالإمكان، ولم يوجد واحد منهما. قال الشيخ أبو حامد: فعلى هذا: إن كان المرهون معه في المجلس أو بقربه، وهو يراه أو يعلم به.. فإن القبض فيه هو مضي مدة، لو قبضه فيها.. أمكنه. وإن كان الرهن في صندوق وهو في البيت، ويتحقق كونه فيه.. فقبضه أن تمضي مدة، لو أراد أن يقوم إلى الصندوق ويقبضه.. أمكنه. وإن كان الرهن غائبا عن المجلس، بأن يكون في البيت والمرتهن في المسجد أو السوق.. فنقل المزني عن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أنه لا يصير مقبوضا حتى يصير المرتهن إلى منزله، والرهن فيه). فقال أبو إسحاق: هذا فيما يزول بنفسه، مثل العبد والبهيمة، وأما ما لا يزول بنفسه، كالثوب، والدار.. فلا يحتاج إلى أن يصير إلى منزله، بل يكفي أن يأتي عليه زمان يمكنه القبض فيه. قال القاضي أبو الطيب: وقد نص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على مثل ذلك في "الأم" [3/125]؛ لأن ما يزول بنفسه لا يعلم مكانه، فلا يمكن تقدير زمان يمكن فيه القبض، وما لا يزول بنفسه، فالظاهر بقاؤه في مكانه. وأما الشيخ أبو حامد: فقال: غلط أبو إسحاق، فقد نص الشافعي في "الأم" على: (أنه لا فرق بين الحيوان وغيره)؛ لأنه يجوز أن يحدث على غير الحيوان التلف من سرقة أو حريق أو غرق، فهو بمنزلة الحيوان. وحكى في "المهذب": أن من أصحابنا من قال: إن أخبره ثقة: بأنه باق على صفته، ومضى زمان يتأتى فيه القبض.. صار مقبوضا، كما لو رآه وكيله، ومضى زمان يتأتى فيه القبض. وليس بشيء؛ لأنه يجوز أن يكون قد تلف بعد رؤية الثقة. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -[في "الأم" (3/125)] (ولا يكون القبض إلا ما حضره المرتهن، أو وكيله). قال أصحابنا: وهذا الكلام يحتمل تأويلين: أحدهما: أن هذه مسألة مبتدأة، أي: أن القبض لا يحصل في الرهن إلا أن يقبضه المرتهن أو وكيله. فقصد بهذا بيان جواز الوكالة في القبض؛ لأن القبض هو نقله من يد الراهن إلى يد المرتهن، وهذا لا يوجد إلا بحضور المرتهن، أو وكيله. وقد فرع الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على هذا في "الأم" [3/124] (أن المرتهن لو وكل الراهن في قبض الرهن له من نفسه.. لم يصح؛ لأنه لا يجوز أن يكون وكيلا لغيره على نفسه في القبض). والتأويل الثاني: أن هذا عطف على المسألة المتقدمة، إذا رهنه وديعة عنده غائبة عنه، فلا تكون مقبوضة حتى يرجع المرتهن أو وكيله، ويشاهدها. قالوا: وهذا أشبه؛ لأنه اعتبر مجرد الحضور لا غير، وإنما يكفي ذلك فيما كان عنده. فأما ما كان في يد الراهن: فلا بد من النقل فيه.
وقال مالك، وأبو حنيفة، وأحمد، والمزني - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - تعالى: (يزول ضمان الغصب عن المرتهن). دليلنا: أنه لم يتخلل بين الغصب والرهن أكثر من عقد الرهن وقبضه، والرهن لا ينافي الغصب؛ لأنهما قد يجتمعان، بأن يرتهن عينا ويتعدى فيها. فإن ارتهن عارية في يده وأذن له في قبضها عن الرهن.. صح، وكان له الانتفاع بها؛ لأن الرهن لا ينافي ذلك، ويكون ضمان العارية باقيا عليه، فإن منعه المعير من الانتفاع.. فهل يزول عن المستعير الضمان؟ فيه وجهان: أحدهما: يزول عنه؛ لأنها خرجت عن أن تكون عارية. والثاني: لا يزول عنه الضمان؛ لأن يده لم تزل. وإن أودعها المعير عند المستعير، أو المغصوب منه عند الغاصب.. فهل يزول عنه الضمان؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يزول عنه الضمان، لبقاء يده. والثاني: يزول؛ لأن الإيداع ينافي الغصب والعارية. |